لشيخ د. مشهور فواز -المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وصلني استفسار من بعض الطلبة الجامعيين ، حول علاقة المسلم بغير المسلم ما يحل منها وما يحرم ، وذلك نظرا لتضارب الآراء والأفكار في هذه القضية ، حيث ان المسلمين في التعامل معها على طرفي نقيض ، فمنهم المسيب للحدود والضوابط ومنهم المتشدد المتنطع ، فأردت من خلال هذا المقال وفي هذه العجالة ان أبين نظرة الاسلام الصحيحة الوسطية لغير المسلمين من خلال فهمنا للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأقوال الفقهاء .
وما توفيقي واعتصامي الا بالله تعالى !!
لقد نظم الاسلام علاقة المسلم بغيره من اصحاب الديانات الاخرى في آيتين هما بمثابة دستور جامع في هذا الشأن ، وهما قوله تعالى :{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ٭ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } ، ( سورة الممتحنة ، آية :8-9) .
فالآية الأولى لم ترغب في العدل والاقساط فحسب الى غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم أي اولئك الذين لا حرب ولا عداوة بينهم وبين المسلمين ، بل رغبت الآية في برهم والاحسان إليهم ، والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسع فيه فهو أمر فوق العدل .
وهي الكلمة التي يعبر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم ، وذلك هو " بر " الوالدين.
وإنما قلنا : ان الآية رغبت في ذلك لقوله تعالى : { ان الله يحب المقسطين } .
والمؤمن يسعى دائما الى تحقيق ما يحبه الله ، ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية انها جاءت بلفظ " ولا ينهاكم الله " ، فهذا التعبير قصد به نفي ما كان عالقا بالاذهان ولا يزال ، ان المخالف في الدين لا يستحق برا ولا قسطا ولا مودة ولا حسن عشرة ، فبين الله تعالى انه لا ينهى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم ، بل مع المحاربين لهم ، العادين عليهم .
ويشبه هذا التعبير قوله تعالى في شأن الصفا والمروة - لما تحرج بعض الناس من الطواف بهما لبعض ملابسات كانت في الجاهلية :{ فمن حج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوف بهما } ، ( سورة البقرة ، آية 158) .
فنفي الجناح لإزالة الوهم ، وان كان الطواف بهما واجبا من شعائر الحج ، ( انظر : الحلال والحرام د. يوسف القرضاوي ص 291) .
واذا كان الاسلام لا ينهى عن البر والاقساط الى مخالفيه من أي دين ، ولو كانوا وثنيين مشركين - كمشركي العرب الذين نزلت في شأنهم الآيتان السالفتان - فإن الاسلام ينظر نظرة خاصة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى سواء أكانوا في دار الاسلام أم خارجها .
فالقرآن لا يناديهم الا بـ " يا أهل الكتاب " و " يا أيها الذين أوتوا الكتاب " .
يشير بهذا الى أنهم في الأصل أهل دين سماوي ، فبينهم وبين المسلم رحم وقربى تتمثل في أصول الدين الواحد الذي بعث به الله انبياءه جميعا ، قال تعالى :{شُرّع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا إليك وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ، ( سورة الشورى ، اية 13) .
وقد أمر القرآن الكريم المسلمين بتجنب المراء الذي يوغر الصدور ويثير العداوات في مجادلة أهل الكتاب ، قال تعالى :{ ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } ، ( سورة العنكبوت ، آية 46).
وقد رأينا كيف أباح الاسلام مؤاكلة أهل الكتاب وتناول ذبائحهم كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم مع ما في الزواج من سكن ومودة ورحمة ، وفي هذا قال الله تعالى :{ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، ( سورة المائدة: آية 5) .
هذا في أهل الكتاب عامة ، أما النصارى منهم خاصة فقد وضعهم القرآن موضعا قريبا من قلوب المسلمين ، فقال :{ لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } ، ( سورة المائدة: آية 82) .
وهذه الوصايا المذكورة تشمل جميع أهل الكتاب ، غير ان المقيمين في ظل دولة الاسلام منهم لهم وضع خاص وهم الذين يسمون في اصطلاح المسلمين باسم " أهل الذمة"والذمة معناها : العهد ، وهي كلمة توحي بأن لهم عهد الله ورسوله وعهد جماعة المسلمين ان يعيشوا في ظل الاسلام آمنين مطمئنين .
وهؤلاء بالتعبير الحديث " مواطنون " في الدولة الاسلامية ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، الا ما هو من شؤون الدين والعقيدة ، فإن الاسلام يتركهم وما يدينون .
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بأهل الذمة وتوعد كل مخالف لهذه الوصايا بسخط الله وعذابه ، فجاء في احاديثه الكريمة :
" من آذى ذميا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله " ، ( رواه الطبراني في الاوسط ،باسناد حسن ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " من آذى ذميا فأنا خصمه ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة " ( رواه الخطيب باسناد حسن ) .
وقال صلى الله عليه وسلم :" من ظلم معاهدا أو انتقصه حقا أو كلفه فوق طاقته او أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة " .
وقد أكد فقهاء الاسلام على اختلاف مذاهبهم هذه الحقوق والحرمات ، واليك بعض نصوصهم : جاء في كتاب الفروق للقرافي المالكي :" إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمتنا وذمة الله تعالى ، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الاسلام ، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء او غيبة في عرض احدهم او أي نوع من انواع الأذية او اعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الاسلام " .
وقال ابن حزم في مراتب الاجماع :" ان من كان في الذمة وجاء أهل الحرب الى بلادنا يقصدونه ، وجب علينا ان نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك أهمال لعقد الذمة " .
ولعل سؤالا يجول في بعض الخواطر او يتردد على بعض الألسنة ، وهو : كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين ، والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم اولياء وحلفاء في مثل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم } ، ( سورة المائدة ، آية 51-52) .
والجواب : ان هذه الآيات ليست على اطلاقها ولا تشمل كل يهودي او نصراني او كافر ، ولو فهمت هكذا لناقضت الآيات والنصوص الاخرى التي شرعت موادة أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا والتي أباحت مصاهرة اهل الكتاب واتخاذ زوجة كتابية مع قوله تعالى في الزوجية واثارها:{ وجعل بينكم مودة ورحمة } ، ( سورة الروم ، آية 21) .
انما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للاسلام محاربين للمسلمين فلا يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم ومظاهرتهم - وهو معنى الموالاة - واتخاذهم بطانة يفضي اليهم بالاسرار ، وحلفاء يتقرب اليهم على حساب جماعته وملته ، وقد وضحت ذلك آيات أخر كقوله تعالى :{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر قد بينا لكم الآيات ان كنتم تعقلون ٭ ها أنتم اولاء تحبونهم ولا يحبونكم} ، (سورة آل عمران :آية 118-119) .
وقال تعالى :{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم } ، (سورة المجادلة: آية 22) .
ومحاداة الله ورسوله ليست مجرد الكفر وانما هي مناصبة العداء للاسلام والمسلمين .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وأياكم ان تؤمنوا بالله ربكم } .
فهذه الآية نزلت في موالاة مشركي مكة الذين حاربوا الله ورسوله واخرجوا المسلمين من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله .
فمثل هؤلاء الذين لا تجوز موالاتهم بحال ، ومع هذا فالقرآن الكريم لم يقطع الرجاء في مصافاة هؤلاء ولم يعلن اليأس البات منهم ، بل اطمع المؤمنين في تغير الاحوال وصفاء النفوس ، فقال الله تعالى في السورة نفسها :{ عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم } .
وهذا التنبيه من القرآن الكريم كفيل ان يكفكف من حدة الخصومة وصرامة العداوة ، كما جاء في الحديث : " ابغض عدوك هونا ما عسى ان يكون حبيبك يوما ما " .
وتتأكد حرمة الموالاة للاعداء اذا كانوا اقوياء ، يرجون ويخشون ، فيسعى الى موالاتهم المنافقون ومرضى القلوب يتخذون عندهم يدا يرجون ان تنفعهم غدا ، كما قال تعالى :{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى ان تصيبنا دائرة فعسى الله ان يأتي بالفتح او أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} ، ( سورة المائدة : آية 52) .
وقال تعالى :{ فبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } ، (سورة المائدة ، آية 52) .